الإدارة الصفية الناجحة: النظام الذي نريد (3).
مقدمة[1]
سنتناول في هذه الحلقة عاملا من بين أهم العوامل المؤثرة على النظام (الذي يكون ثمرة للنشاط)، وهو عامل أسيل في طلبه الكثير من الحبر ونظّرت له الكثير من العقول. وشخصيا قد ترددت كثيرا في كتابة هذه الحلقة، باعتبار الموضوع محل اختلاف. إلا أنني قررت أن أكتب من منطلق التجربة الشخصية وملاحظاتي المتواضعة في هذا الميدان. فالعامل الذي نحن بصدد الحديث عنه له شقين رئيسين، هما التحفيز والتأديب[2] التربويين. وكل شق منهما يحتاج إلى أكثر من مقال للإحاطة به. وسأحاول هنا الحديث عن الموضوع إجمالا من حيث تأثيره على النظام لا من حيث تفاصيله[3].
يشكل وضوح سياسة التحفيز والتأديب لدى أي معلم حجر الزاوية في الإدارة الصفية، بغض النظر عن منهل هذه السياسة (سلوكية، بنائية، بنائية اجتماعية). ومن مؤشراته:
- إدراك المتعلمين المسبق بالتحفيزات[4]:
يتعمد بعض المعلمين عدم التصريح بالتحفيز المخصص عقب السلوك المرجو هروبا -في كثير من الأحيان- من مسؤولية الوفاء بالوعد. مما يفتح الباب أمام الصدف في المعاملة. فمثلا: (إذا قام المتعلم (أ) بتصرف حسن، وصادف أن المعلم جاهز للتحفيز، فسينال الثواب، بينما إذا قام المتعلم (ب) بنفس التصرف، وصادف أن هذا المعلم غير جاهز للتحفيز فسيقابل بالجفاء. ربما لن ينتبه هذا المعلم إلى الانعكاسات الخطيرة لهذا التذبذب في المعاملة على نظام الصف. لكن ما تؤكده التجربة أن كثيرا من التصرفات السلبية التي تحدث داخل الصف من قبل بعض المتعلمين ما هي إلا ردة فعل على شعورهم بالإجحاف. وربما تعدى الأمر إلى مضايقة أولئك المتعلمين المحظوظين من صنف المتعلم (أ) بدافع الغيرة، فيُقاطعون أثناء حديثهم أو تعقُبهم التعاليق. لهذا فعلى كل معلم أن يتحمل مسؤوليته الكاملة ولا يتملص منها مخافة عدم الوفاء، وإنما عليه الاجتهاد في وضع خطة واضحة القواعد ويجهز مسبقا تحفيزاتها إذا كانت مادية، حتى لا ينقلب عليه السحر الذي يحققه التحفيز على نظام الصف.
- إدراك المتعلمين المسبق بعواقب المخالفات: هناك من المعلمين من يترك نفسه عرضة للمزاج والصدف فالسلوك الذي يعتبره في حالة المتعلم (أ) مشينا ويستحق أقصى العقوبات، ربما يتغاضى عنه كليا في حالة المتعلم (ب). فإذا كان التذبذب في التحفيز يسبب الغيرة فإن التذبذب في التأديب يسبب الحقد بين المتعلمين، وهذا أخطر. لهذا فعلى كل معلم الحذر من الغموض الذي يكتنف عملية التأديب، فهي عملية حساسة جدا، وعليه أن يتفق مسبقا –عادة في الحصص الدراسية الأولى مع متعلميه- على عواقب[5] كل سلوك حتى يشعرهم بعدل المعاملة فكل من خالف قاعدة ما سينال نفس العقاب.
- التركيز على التحفيز المعنوي: كثيرا ما يهمل المعلمون جمال الكلمة الطيبة وسحر الابتسامة وفاعلية الثناء والمدح. فكل هذه الأساليب كفيلة بتحفيز المتعلمين وبناء تقدير مرتفع جدا لذواتهم، لا يستطيع أي تحفيز مادي آخر الوصول إليه. لهذا فعلى المعلم تدريب نفسه على مثل هذه الأساليب حتى يقدمها في وقتها وبقدرها كي لا يضيع مفعولها[6].
- الوفاء: مما لا شك فيه أن المعلم الذي يبدع في صياغة التحفيزات أو حياكة القوانين التي تنظم المتعلمين، قد خطى خطوات عملاقة في سبيل تحقيق نظام إيجابي داخل صفه، لكن مفتاح النجاح هو الوفاء بالوعد والوعيد. أي أن حجم التحفيز أو صرامة القوانين لن تكون ذات أهمية لو لم يتم تحقيقها على أرض الواقع. لهذا على المعلم التفكير مليا قبل إطلاق أي تحفيز أو تسطير أي عاقبة في إمكانية تحقيقها فعلا وفي الوقت المناسب.
[1]إن هذه المقدمة التمهيدية أريد أن ألفت بها النظر إلى ضرورة بدل المزيد من الجهد في سبر أغوار هذا الموضوع انطلاقا من قيمنا ونظرتنا الذاتية إلى الإنسان دون الاعتماد على القيم والنظرة الغربية فقط.
[2]سنستخدم عبارة "التأديب" عوض العبارة الشائعة "العقاب" لما للعبارة الأولى من دلالة مرتبطة بعملية التربية والتنشئة، بينما العبارة الثانية لها دلالة مرتبطة بالقانون والمحاسبة. وكلمة تأديب شاملة بينما العقاب هو التطبيق العملي لعملية التأدي.
[3] لمزيد من التفاصيل في الموضوع وتفاصيله يمكن الاطلاع على كتاب (كيف نؤدب أبناءنا بغير ضرب) لمحمد نبيل كاظم –دار السلام- 2011
[4] لن نتعمق هنا في بيان أي نوع من التحفيزات (مادية، معنوية) المهم هنا وجود التحفيز مهما كان نوعه.
[5] الفرق بين العاقبة والعقاب هو أن العاقبة تعني المآل وهو المعلوم سلفا وأي متعلم بإمكانه معرفة ما ينتظره في حال مخالفة قاعدة متفق عليها. بينما العقاب تنفيذ للعاقبة حين وقوع الخطأ. ومن شروط التأديب معرفة العواقب قبل إنزال العقاب. والمعلم الذي لا يوضح العواقب يقع متعلميه ضحية العقاب العشوائي.
[6] يجب على المعلم عدم التهور في استعمال هذه الأساليب فاستعمالها عن غير قصد سيجعل المتعلمين لا يلقون لها بالا لأنهم سيكتشفون أن تلك العبارات التشجيعية أو المدح حق للجميع سواء أحسنوا أم لا. فيخف بذلك الأثر المرجو من تلك الأساليب.
التربية بالعواقب وليس بالعقاب 1- العقاب البدني في المدرسة وسيلة من وسائل التأديب، الذي هو عنصر هام وأساسي من عناصر التربية الإسلامية، وعليه من حق المعلم أن يعاقب طلابه حينما يُخِلّون بالآداب ويصدر عنهم أي سلوك لا أخلاقي يضر بالعملية التعليمية أو بالزملاء. 2- العقاب البدني ليس هدفًا، إنما هو وسيلة لتقويم المتعلم. 3- من الضروري الجمع بين الثواب والعقاب في التعليم المدرسي، وأن يسبق العفو العقاب المدرسي. 4- لا يُستخدم العقاب البدني قبل سن العاشرة، ثم إن الاستمرار فيه بعد البلوغ مرفوض. وبذلك يكون استخدام العقاب البدني في المدرسة، محصورًا بإطار زماني ضيق، فضلا عنه كونه مقيدًا بكيفية محددة. 5- ليس هناك خلاف حول موضوع العقاب البدني، بين علماء التربية المسلمين القدامى والمعاصرين فقد أباحوه في حدود ضيقة للغاية وضمنوه شروطا بالغة الصعوبة في استخدامه حتى لا يلحق بالصبي أيُّ ضرر، ولا يخرج الضرب عن معنى التأديب، فالمعلم لا يلجأ للضرب إلا بعد أن يستنفذ كل وسائل التأنيب الأخرى. وحينما تتعالى أصوات بعض المربين المعاصرين في بلاد المسلمين بإلغاء العقاب البدني في المدارس، فإن ذلك يدل بوضوح على التأثر بالفكر التربوي الغربي. وعدم الانطلاق من خلال مصادر التربية الإسلامية. 6- التركيز في المدارس على الضبط الداخلي لدى الطلاب، وذلك عن طريق تربية الضمير وإحيائه من خلال التربية الروحية والأخلاقية. 7- أن يتحلى المعلمون بمزيد من الرفق بالمتعّلمين، والصبر على تعليمهم وتأديبهم وتوثيق العلاقة بهم. 8- من الضروري أن تتعاون المؤسسات الاجتماعية الأخرى ( الأسرة، الإعلام، المسجد ) مع المدرسة في مجال تأديب الأولاد وغرس الفضائل الأخلاقية في نفوسهم. 9- إن أثر الثواب في التعليم أقوى وأبقى من أثر العقاب وإن الثواب غالبا ما يضمن تكرار السلوك الجيد بينما لا يضمن العقاب الكف عن السلوك غير السوي. 10- ضرورة العمل على إيجاد رؤية موحدة للممارسات العقابية بين المدرسين حتى لا يترك الأمر للاجتهاد الشخصي فالخطأ في مجال العقوبة يدوم أثره ربما إلى آخر العمر. و كثير من التشوهات النفسية و المترتبة على القسوة و المهانة يصعب علاج آثارها و تداعياتها . 11- عدم الإكثار من العقاب لأنه يولد كره الطالب للمدرسة والمعلم ولزملائه . 12- تجنب العقاب البدني قدر الإمكان، وعدم اللجوء إليه إلا عندما يتجاوز الطالب الحدود الأخلاقية... 13- أن يعرف المتعلم السبب الذي دفع المعلم إلى معاقبته حتى لا يكرر سلوكه السيئ مرة أخرى. والأطفال لديهم حساسية شديدة ضد الظلم. 14- التدرج في استخدام العقاب بدءا من التلميح والعتاب والحرمان . . . وغيرها وصولا في النهاية إلى العقاب البدني في حال كان استخدامه ضروريا جدا. 15- لا يجب أن تلقي إدارة المدرسة التبعة كاملة على المعلم بعد أن سلبت منه حق العقوبة ، دون أن تقوم هي الأخرى به .. فهي بذلك تجعله كالطائر المقصوص جناحيه ويطلب منه أن يطير.