يا معلمي العالم، ارشُدوا (1) : الصبيانية وروح العصر
أحيانا يعُوزنا التعريض فنلوذ بالتوضيح، وأحيانا لا يُجدي التلميح فنضطرُّ إلى التصريح، وفي جميع الأحوال المقصدُ هو أن نلتقي في نقطة المعنى، ونرتقي إلى علوِّ الفهم والإدراك ثم الوعي؛
وبخاصَّة لو تأمَّلنا بجدِّية حالنا ووضعَنا، وما نحن فيه، وما نحن صائرون إليه؛ لا بعين الناقم ولا بعين البليد، بل بنظر المسؤول الحديد،
وبمنطق "عرضِ العمل على التفتيش". والمفتِّش الأوَّل خبير بصير، عليم حكيم؛ ثم يليه مفتِّش حليم حكيم، هو صاحب الفضل علينا، عليه السلام؛ ثم يُعرض عملُنا على كلِّ قلب وعقل يغرس فتيله في محبرة الإيمان، ويستنير من نور اليقين.
في هذا الشأن، ولهذا الغرض، وبهذا النفَس، أطللتُ اليومَ مرَّة أخرى على ملفِّ التعليم، وعلى التربة الخصبة لبناء الحضارة، راجيا من القارئ الصدوق، ومن العامل المشوق، أن يتفاعل ويفعل، لا أن ينفعل ويجبُن، أو يُعرِض ثم يبرِّر. فأنا أحسن الظنَّ فيه، وأثق في جنابه، وأرجو النجاة من بابه.
وأبدأ مقالتي بهذه الملاحظة، مستصحبا معلِّما خرِّيتا، وهو أحد الذين جلست إليهم طويلا، وتشربَّت من معينهم سلافة الحقِّ، واعتقدت إمامتهم دون مَن سواهم، بحقِّ وبصدق. وأعني به: العلاَّمة علي عزت بيجوفيتش، رحمه الله تعالى برحمته الواسعة، فهو من مصادر المنظومة الأدلاَّء، إلى جوار: مالك بن نبي، وفتح الله كولن، وعبد الوهَّاب المسيري... وغيرهم من الأيمة الهداة المهديين.
الصبيانية وروح العصر:
يورد بيجوفيتش ملاحظة ينسبها إلى "يوهان هويزنجا" (Juhan Huizinga) يسمَّيها بـ"الصبيانية" (Puerility). وهي "أنَّ الإنسان المعاصر يتصرَّف بطريقة طفولية، بالمعنى السلبي للكلمة، أي بطريقة تتَّفق مع المستوى العقليِّ للمراهقة: تسلياتٌ مبتذلَة، غيابُ روح الفكاهة الأصيلة، الحاجةُ إلى أحداث مثيرة ومشاعر قوية، الميلُ إلى الشعارات الرنَّانة والاستعراضات الجماهيرية، التعبيرُ عن الحبِّ والكراهية بأسلوب مبالَغ فيه، اللومُ والمدح المبالغ فيه، وغير ذلك من العواطف الجماهيرية القاسية".
وبإمكاننا أن نضيف إلى هذه المظاهر قائمة أخرى من السلبيات، منها: العجزُ عن التركيز المتواصل، تشتت الذهن والتقلب بين المواضيع بأسلوب "تقليب القنوات"، "ذهنية الفايسبوك" بتعبير أحد باحثينا، التردُّد المبالغ فيه في اتخاذ القرار، الاعتناء المفرِط بالجزئيات على حساب المعاني الكبرى والكليات... الخ.
مع ملاحظة أنَّ ذلك ليس سمةً "للعصر" باعتباره "هذا العصر"، ولكنه مكتسَب ونتيجة وصناعة لظروفٍ، على رأسها الواقعُ التربوي، والإعلام الجماهيري، واهتزاز منظومة الثقافة، وضعف التدين، وسوء فهمه وتمثله؛ وهو ما يمكن أن نعبِّر بمصطلح "الأفكار المطبوعة"، باعتماد قاموس ابن خلدون ومالك بن نبي.
والآن، إذا لم تسهم المدرسة بصفة مباشرة ومعلنة في "ترشيد" هذا "المتصابي"، وفي "إنضاج" هذا "المهدَّد بالتشتت والتشرذم والانهيار الجوَّاني"، فما دورها إذن؟ ولماذا أنشئت أساسًا؟ وما الفائدة المرجوَّة من الدروس والمحفوظات التي تلقِّنها تباعا؟
...يُتبع
---------------------------------------------------------
طرحك للموضوع جميل لكن اين البديل